الشوق إلى الله تعالى ( 2-3 )
قال القشيري : سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يفرق بين الشوق والاشتياق ويقول : الشوق يسكن باللقاء . والاشتياق لا يزول باللقاء .
قال : وفي معناه أنشدوا :
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته حتى يعود إليه الطرف مشتاقا.
وقال النصراباذي : للخلق كلهم مقام الشوق .
وليس لهم مقام الاشتياق .
ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له فيه أثر ولا قرار .
قال الدقاق في قول موسى وعجلت إليك رب لترضى
قال : معناه شوقا إليك فستره بلفظ الرضا .
وقيل : إن أهل الشوق إلى لقاء الله يتحسون حلاوة القرب عند وروده لما قد كشف لهم من روح الوصول أحلى من الشهد .
فهم في سكراته في أعظم لذة وحلاوة .
وقيل : من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء .
كما قال بعضهم : أنا أدخل في الشوق والأشياء تشتاق إلي وأتأخر عن جميعها وفي مثل هذا قيل :
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت عن الماء فاشتاقت إليها المناهل وكانت عجوز مغيبة .
فقدم غائبها من السفر ففرح به أهله وأقاربه وقعدت هي تبكي .
فقيل لها : ما يبكيك ؟
فقالت : ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله عز وجل .
يا من شكا شوقه من طول فرقته اصبر لعلك تلقى من تحب غدا.
وقيل : خرج داود عليه السلام يوما إلى الصحراء منفردا .
فأوحى الله تعالى إليه : ما لي أراك منفردا ؟
فقال : إلهي استأثر شوقي إلى لقائك على قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق .
فقال : ارجع إليهم فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذا .
قال صاحب المنازل رحمه الله :
الشوق : هبوب القلب إلى غائب .
وفي مذهب هذه الطائفة : علة الشوق عظيمة .
فإن الشوق إنما يكون إلى الغائب .
ومذهب هذه الطائفة : إنما قام على المشاهدة .
ولهذه العلة لم ينطق القرآن باسمه .
قلت : هوصدر الباب بقوله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت فكأنه جعل الرجاء شوقا
بلسان الاعتبار لا بلسان التفسير .
أو أن دلالة الرجاء على الشوق باللزوم لا بالتضمن ولا بالمطابقة .
قوله " هبوب القلب إلى غائب " يعني : سفره إليه وهويه إليه .
وأما العلة التي ذكرها في الشوق : فقد تقدم أن من الناس من جعل الشوق في حال اللقاء أكمل منه في حال المغيب .
فعلى قول هؤلاء : لا علة فيه .
وأما من جعله سفر القلب إلى المحبوب في حال غيبته عنه فعلى قوله : يجيء كلام المصنف ووجهه مفهوم .
وقوله " فإن مذهب هذه الطائفة " الذي هو الفناء يريد : أن الفناء إنما قام على المشاهدة .
فإن بدايته كما قرره هو المحبة التي هي نهاية مقامات المريدين .
والفناء إنما يكون مع المشاهدة ومع المشاهدة لا عمل للشوق .
فيقال : هذا باطل من وجوه .
أحدها :أن المشاهدة لا تزيل الشوق بل تزيده كما تقدم .
الثاني : أنه لا مشاهدة أكمل من مشاهدة أهل الجنة .
وهم إلى يوم المزيد وهو يوم الجمعة أشوق شيء كما في الحديث .
وكذلك هم أشوق شيء إلى رؤية ربهم وسماع كلامه تعالى وهم في الجنة.
فإن هذا إنما يحصل لهم في حال دون حال كما في حديث ابن عمر المسند وغيره إن أعلى أهل الجنة منزلة : من ينظر إلى وجه ربه كل يوم مرتين .
ومعلوم قطعا : أن شوق هذا إلى الرؤية قبل حصولها أعظم شوق يقدر وحصول المشاهدة لأهل الجنة أتم منها لأهل الدنيا .
الثالث : أنه لا سبيل في الدنيا إلى مشاهدة تزيل الشوق ألبتة ومن ادعى هذا فقد كذب وافترى .
فإنه لم يحصل هذا لموسى بن عمران كليم الرحمن عز وجل فضلا عمن دونه .