الشوق إلى الله تعالى ( 1-3 )
بسـم الله الـرحمـن الـرحيـم
السـلام عليكـم ورحمـة الله وبـركـاتـه
من كتاب مدارج السالكين ( للإمام ابن القيّم الجوزية)
قال الله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت .
قيل : هذا تعزية للمشتاقين وتسلية لهم .
أي أنا أعلم أن من كان يرجو لقائي فهو مشتاق إلي .
فقد أجلت له أجلا يكون عن قريب فإنه آت لا محالة . وكل آت قريب .
وفيه لطيفة أخرى وهي تعليل المشتاقين برجاء اللقاء .
لولا التعلل بالرجاء لقطعت نفس المحب صبابة وتشوقا ولقد يكاد يذوب منه قلبه مما يقاسي حسرة وتحرقا حتى إذا روح الرجاء أصابه سكن الحريق إذا تعلل باللقا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه
أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك .
قال بعضهم : كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم الشوق إلى لقاء الله .
لم يسكن شوقه إلى لقائه قط ولكن الشوق مائة جزء تسعة وتسعون له وجزء مقسوم على الأمة .
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك الجزء مضافا إلى ما له من الشوق الذي يختص به .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
والشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها .
فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال .
وقيل : هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب .
وقيل : هو احتراق الأحشاء ومنها يتهيج ويتولد ويلهب القلوب ويقطع الأكباد .
والمحبة أعلى منه لأن الشوق عنها يتولد وعلى قدرها يقوى ويضعف .
قال يحيى بن معاذ : علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات .
وقال أبو عثمان : علامته حب الموت مع الراحة والعافية كحال يوسف لما ألقي في الجب لم يقل توفني ولما أدخل السجن لم يقل توفني ولما تم له الأمر والأمن والنعمة قال :" توفني مسلما ".
قال ابن خفيف : الشوق ارتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء بالقرب .
وقيل : هو لهب ينشأ بين أثناء الحشا يسنح عن الفرقة فإذا وقع اللقاء طفئ .
قلت : هذه مسألة نزاع بين المحبين .
وهي : أن الشوق هل يزول باللقاء أم لا ؟
ولا يختلفون أن المحبة لا تزول باللقاء .
فمنهم من قال : يزول باللقاء لأن الشوق هو سفر القلب إلى محبوبه .
فإذا قدم عليه ووصل إليه صار مكان الشوق قرة عينه به .
وهذه القرة تجامع المحبة ولا تنافيها .
قال هؤلاء : وإذا كان الغالب على القلب مشاهدة المحبوب لم يطرقه الشوق .
وقيل لبعضهم : هل تشتاق إليه ؟
فقال : لا .
إنما الشوق إلى غائب وهو حاضر .
وقالت طائفة : بل يزيد الشوق بالقرب والوصول ولا يزول .
لأنه كان قبل الوصول على الخبر والعلم وبعده : قد صار على العيان والشهود .
ولهذا قيل : وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام .
قال الجنيد : سمعت السري يقول:الشوق أجل مقام للعارف إذا تحقق فيه .
وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه وعلى هذا : فأهل الجنة دائما في شوق إلى الله مع قربهم منه ورؤيتهم له .
قالوا : ومن الدليل على أن الشوق يكون حال اللقاء أعظم : أنا نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه .
وذلك البكاء إنما هو من شدة شوقه إليه ووجده به
ولذلك يجد عند لقائه نوعا من الشوق لم يجده في حال غيبته عنه .
النزاع في هذه المسألة : أن الشوق يراد به : حركة القلب واهتياجه للقاء المحبوب .
فهذا يزول باللقاء ولكن يعقبه شوق آخر أعظم منه
تثيره حلاوة الوصل ومشاهدة جمال المحبوب .
فهذا يزيد باللقاء والقرب ولا يزول .
والعبارة عن هذا : وجوده . والإشارة إليه : حصوله .
وبعضهم سمى النوع الأول : شوقا . والثاني : اشتياقا .