"لقد رأيت – بعد تجارب عدة – أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة!.. إنه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التقوى إذا كان جسده عاريا!.. إنه يجب أن يؤمن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان، ثم ينتظر بعدئذ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان .. فلا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع، والإصلاح العمراني الشامل، إذا كنا مخلصين حقا في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقا في هداية الناس لرب العالمين..
إن بعض ذوي الآفاق المغلقة يتوهمون أن إدخال العوامل الاقتصادية في الرذائل والفضائل جنوح إلى التفكير الشيوعي القائم على النظرة المادية المحضة للحياة، واستهانة بالقوى الروحية السامية .. وهذا التوهم خاطئ، فلسنا نغض من قيمة الجانب الروحي .. بيد أن ذلك لا يعني إغفال المشاهد المحسوس، من تولد الرذائل الخطيرة في المجتمعات المصابة بالعوز والاحتياج، بل إن الاضطراب الاقتصادي في أحوال كثيرة جدا قد يكون السبب الأوحد في نشوء الرذيلة وشيوعها، والحديث النبوي الذي يلمح فيه نبي الإسلام إلى أن المعاصي توقع فيها الضوائق المادية – حديث: "إن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلى الكذب" – يضع أيدينا على طرف الحقيقة التي بدأ الناس يفهمونها الآن كاملة!..
إن بقاء كثير من الناس صرعى الفقر والمسكنة، هو هدف أكثر الحكومات المتتابعة، في العصور السابقة واللاحقة، إذ إن تجويع الجماهير بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والظلام، ومن هنا انتشر الفقر في الشرق، وسخر الدين ورجاله لحمل الناس على قبوله واستساغته، وفسرت نصوص الدين المتصلة بهذا المعنى تفسيرا سقيما، نسى الناس معه حقوقهم وحياتهم، وجهلوا دنياهم وأخراهم، وحسبوا الفقر في الدنيا سبيلا إلى الغنى في الآخرة!..
إن هدف الديانات والرسالات هو قيام التوازن بين الناس، بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم .. وقيام الناس بالقسط .. – العدل – هو محور الارتكاز الذي لا يتغير أبدا ..