سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
والوحي
بعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه،
صار يرى في منامه أحلامًا تشع بالآمال والوعود،
فتنبلج أثناءها أمام بصيرته أنوار الحقيقة التي ينشدها،
ويرى معها باطل الحياة وغرور زخرفها..
إذ ذاك أيقن أن قومه قد ضلوا سبيل الهدى...
واستمر محمد صلى الله عليه وسلم على هذا الحال حتى شارف الأربعين،
وذهب إلى حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيمانًا بما رأى في منامه
من رؤيا، فاتجه بقلبه إلى الله بكل روحه
أن يهدي قومه بعد أن ضربوا تيهاء الضلال...
وهو في توجهه هذا يقوم ويرهف ذهنه وقلبه،
وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء،
ثم يعود إلى خلوته، إلى أن طالت به الحال ستة أشهر،
حتى خشي على نفسه عاقبة أمره، فأسر بمخاوفه إلى خديجة،
وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به،
فطمأنته الزوج المخلصة الوفية،
وجعلت تحثه بأنه الأمين.
وحوالي عام (12ق، هـ/ 610 م)، وهو معتكف في غار حراء،
إذ تعرض لهجوم مباغت مذهل،
فقد ظهر له من يقول له: اقرأ،فقال محمد صلى الله عليه وسلم مرتعدًا: ((ما أنا بقارئ))،
فأحس أنه يخنقه حتى بلغ منه الجهد،
ثم أرسله وقال له: اقرأ،
فعاود محمد صلى الله عليه وسلم الإجابة وهو مذهول مما يجد:
((ما أنا بقارئ))، فضمه هذا الذي رأى
وقال له في الثالثة
}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{
العلق: 1 - 5،
وهذه الآيات هي أول ما نزل من القرآن على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
فلقد مثلت تلك الكلمات امتدادًا لاعتقاد قريش أن الله خلق كل شخص منها،
وكشفت وهم مروءة الاستغناء، وأظهرت الاعتماد الكلي للبشر على الله،
وأظهرت خطأ اعتقادهم أن الله هو إله بعيد غائب،
بل ها هو حاضر لهداية مخلوقاته، فيجب عليهم الاقتراب منه،
وإفراد العبودية له، وعدم الإشراك به.
وما إن تمالك محمد صلى الله عليه وسلم نفسه،
فترك الغار وقد انتابته الحيرة في تفسير ما رأى،
ورجع إلى خديجة وفؤاده يرجف،
وقال: ((زملوني زملوني))،
فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال: ((يا خديجة، ما لي!))،
وأخبرها الخبر، وقال: ((لقد خشيت على نفسي))،
فكانت خديجة ملك الرحمة وملاذ السلام لهذا القلب الكبير الخائف الوجل،
فلم تبدِ له أي خوف أو ريبة،
وقالت له ما أوردناه سابقًا:
"كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ،
وتَكسِب المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وفي الحقيقة، إن بدء الوحي هذا هو الأساس الذي يترتب عليه
جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته،
وفهمه واليقين به هما المدخل الذي يسوقنا إلى اليقين بسائر ما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية؛
وذلك لأن حقيقة ) الوحي( هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكر من
عنده، ويشرع بواسطة رأيه وعقله،
والإنسان الذي يبلغ عن ربه دون أن يغير أو ينقص أو يزيد.